الوعي… الخطوة الأولى لصنع الفرق في حياة أطفال التوحد
الطفولة مرحلة حرجة في حياة الإنسان، إذ تُبنى خلالها اللبنات الأولى للشخصية، واللغة، والمهارات الاجتماعية والعاطفية، كل لحظة في هذه المرحلة تحمل إمكانيات هائلة للتعلم والنمو، وأي تأخر أو خلل قد يترك أثرًا طويل المدى على مستقبل الطفل، من بين الاضطرابات النمائية التي تظهر خلال هذه المرحلة، يأتي اضطراب طيف التوحد، وهو اضطراب عصبي نمائي يؤثر على التواصل، والسلوك، والتفاعل الاجتماعي.
في السنوات الأخيرة، أصبح التركيز على الكشف المبكر ضرورة قصوى، فالتأخر في التعرف على علامات التوحد يمكن أن يحرم الطفل من سنوات حرجة لتطوير مهاراته اللغوية والاجتماعية، ولعل السؤال الأهم هو: هل يمتلك كل من الأسرة والمعلمة الوعي الكافي لهذه المؤشرات؟ وهل هناك آليات عملية لتحويل المعرفة النظرية إلى تدخل فعّال؟
مؤشرات الكشف المبكر لاضطراب طيف التوحد
تشير الدراسات الحديثة إلى عدة مؤشرات يمكن أن تساعد في الكشف المبكر للأطفال ذوي طيف التوحد، ومنها:
ضعف التواصل البصري المستمر.
عدم الاستجابة عند مناداة الطفل باسمه.
تكرار الحركات النمطية.
تأخر النطق أو فقدان كلمات سبق اكتسابها.
الانشغال المفرط بأشياء محددة أو اهتمام محدود.
التعرف على هذه العلامات مبكرًا يسمح للأهل والمعلمين بالتحرك بسرعة نحو التدخل المناسب والفعال، ما يقلل من حدة التحديات المستقبلية ويعزز فرص الطفل في اكتساب مهارات التواصل والسلوك الاجتماعي بشكل أفضل.
أهمية الكشف المبكر
الكشف المبكر عن اضطراب طيف التوحد عنصر حاسم في تحسين حياة الطفل والأسرة على حد سواء لأنه:
يفتح الأبواب أمام التدخل المبكر.
يقلل من الفجوة الاجتماعية واللغوية.
يخفف الضغوط النفسية على الأسرة.
يبني أساسًا لمستقبل مستقل.
دور المعلمات في مرحلة الطفولة المبكرة
تلعب المعلمة في سنوات الطفولة المبكرة دورًا حاسمًا في الكشف المبكر، فهي ترى الطفل يوميًا في بيئة تعليمية منظمة في كل من الحضانة أو الروضة والمدرسة، وتتابع سلوكياته اللغوية والاجتماعية، مما يمنحها قدرة على ملاحظة أي سلوك غير معتاد قد يغيب عن الأسرة.
ومع ذلك، أظهرت نتائج دراسة السليمان (2022) أن هناك تفاوتًا في معرفة المعلمات بمؤشرات التوحد، فالبعض يمتلك المعرفة النظرية، لكن ينقصه التدريب العملي على كيفية رصد العلامات الدقيقة والتصرف وفقها، ما يؤكد الحاجة إلى برامج تعليمية مستمرة وتدريب مكثف في هذا المجال خصوصًا في للقائمين تعليم الأطفال.
دور الأسرة في دعم الطفل
لا يقتصر دور الأسرة على الملاحظة، بل يمتد إلى خلق بيئة داعمة ومحفزة للطفل منذُ ولادته:
التفاعل اليومي اللفظي والجسدي مع الطفل.
إشراك الطفل في الأنشطة اليومية التي تعزز التفاعل الاجتماعي.
مراقبة أي تغييرات في السلوك والتواصل، والتواصل الفوري مع المعلمين أو الأخصائيين عند ملاحظة أي علامة غير طبيعية.
تضافر جهود الأسرة والمعلمة يضمن رصدًا دقيقًا، وتدخلًا مبكرًا، ويضع الطفل على مسار نمو صحي وطبيعي
استفسارات الأهالي وتجربتنا اليومية.
خلال عملنا اليومي في مركز فيرست ستب نتلقى الكثير من الأسئلة المتكررة من الأهالي، التي تكشف عن حالة من القلق والبحث عن الأمل، ومن أكثرها شيوعًا:
"ولدي للحين ما يتكلم، هل هناك أمل؟"
"طفلي ما ينظر في عيني، هل هو توحد؟"
"هل سيستطيع ابني الاندماج والتفاعل مع الأطفال الآخرين؟"
هذه الأسئلة المتكررة توضح أن الوعي المجتمعي بمؤشرات التوحد ما زال بحاجة إلى تعزيز، وأن الكثير من الأهل لا يدركون أن التأخر في النطق أو ضعف التفاعل الاجتماعي ليس بالضرورة حكمًا نهائيًا، بل قد يكون مؤشرًا يستدعي التقييم المبكر والتدخل.
في فيرست ستب نحرص دائمًا على طمأنة الأهالي بالحقائق العلمية، ونعمل على تقييم كل طفل بشكل شامل قبل إطلاق أي حكم. ونوضح لهم أن الأمل موجود دائمًا بقدر ما يكون هناك التزام بالتدخل المبكر، وخطط فردية، وتعاون وثيق بين الأسرة والمركز والمعلمات.
هذه التجربة العملية في المركز تُترجم ما أشارت إليه السليمان 2022 حول ضرورة رفع مستوى معرفة المعلمات والأهالي بمؤشرات الكشف المبكر، فالمعلومة الصحيحة، والمشورة العلمية، والتدخل المبكر، كلها عناصر تفتح أبوابًا جديدة أمام الطفل والأسرة.
التحديات والفرص
رغم التقدم في برامج التدخل المبكر، ما زال هناك تحديات قائمة مثل نقص التدريب العملي المستمر للمعلمات، وتفاوت مستوى وعي الأسر بمؤشرات التوحد، ومحدودية الموارد في بعض البيئات التعليمية. إلا أن الفرص متاحة من خلال تطوير برامج توعية شاملة للأهل والمعلمين، وتوسيع مراكز التدخل المبكر مثل فيرست ستب لتشمل مختلف المناطق، وتشجيع البحث العلمي المستمر لتحديث أساليب الكشف والتدخل المبكر.
قبل الخِتام أود أن أشارككم قصة أم: صراعٌ وأمل
كانت الأم تجلس مساء كل يوم، تتأمل طفلها الوسيم الذي لم يبدأ بالكلام بعد، وتشعر بمزيج من القلق والحيرة، كثيرًا ما كانت تتساءل في صمت: "هل سيتكلم يومًا؟ هل سيكون قادرًا على التعبير عن مشاعره؟" كانت ترى في عينيه البراءة والرغبة في التواصل، لكنها لم تعرف كيف تصل إليه، كل كلمة كانت متأخرة، وكل حركة غير مفهومة كانت تضاعف شعورها بالمسؤولية والذنب أحيانًا.
لكن عندما بدأت رحلتها مع مركز فيرست ستب، شعرت بأن هناك نورًا في نهاية النفق، تلقت التوجيه والإرشاد، ورأت خطوات صغيرة لكن ثابتة على مسار التطور، ابتسامة، نظرة، محاولة نطق كلمة، ومع كل خطوة، كان قلبها يفيض بالأمل، وتزداد ثقتها بأن الطفل الذي طالما شعرت بالقلق عليه قادر على النمو والتعلم، فقط يحتاج إلى الصبر والدعم الصحيح.
هذه القصة تعكس واقع آلاف الأمهات، اللاتي يعيشن يوميًا بين القلق والحب والتحدي، وتؤكد أن التدخل المبكر والوعي بمؤشرات التوحد يمكن أن يكون الفارق الحقيقي بين الشعور بالضياع والشعور بالأمل الحقيقي.
الخاتمة
الكشف المبكر ليس مجرد تشخيص، بل هو فرصة لتغيير مسار حياة الطفل والأسرة، فكل مؤشر صغير يُرصد في الوقت المناسب يمثل خطوة نحو تمكين الطفل وتحقيق إمكاناته الكاملة، إن دمج المعرفة العلمية والممارسات التربوية الحديثة يخلق منظومة دعم حقيقية تضمن ألا يضيع أي طفل فرصة للتعلم والنمو، الوعي هو البداية، والتدخل المبكر هو الطريق، والالتزام الأسري ودعم المعلمات هو جسر العبور نحو مستقبل أفضل.