أثر وسائل التواصل الاجتماعي على العلاقات الأسرية
في زمنٍ ليس ببعيد، حيث كُنّا أطفالاً نعيش دون اللجوء إلى وسائل التواصل البديل، كانت العلاقات الأسرية تُبنى على اللقاءات اليومية، والحوارات الهادئة، والجلوس حول مائدة واحدة يتشارك فيها أفراد الأسرة تفاصيل يومهم وأحلامهم الصغيرة.
كان التلفاز يُغلق في ساعات محددة، والهواتف ثابتة في زوايا المنازل، وكان الحضور الجسدي يعني حضورًا نفسيًا كاملاً. كان الطفل يكتسب الصفات الاجتماعية والمفاهيم المختلفة بشكلٍ تلقائي من خلال مشاركته لوالده في العديد من الأنشطة اليومية كالتسوق أو الذهاب إلى العمل، حتى أصبح البيتُ بيئةً غنيةً بالمفردات والمواقف الحياتية. ومن خلال تفاعله اليومي مع والديه وأقرانه وأقاربه، كان الطفل يتعلم ويطور مهاراته الاجتماعية واللغوية ضمن بيئة أسرية داعمة ومحفزة.
أما اليوم، مع عصر التكنولوجيا الحديثة وظهور وسائل التواصل الاجتماعي، تغيّرت ملامح الحياة الأسرية. أصبح كل فرد في عالمه الرقمي الخاص، يتواصل مع العشرات عبر شاشة صغيرة خالية من المعنى الحقيقي والكامل للمشاعر التي تلامس القلب، وبينما أصبح كلٌّ منا يغيبُ أحيانًا عن أقرب الناس إليه في نفس الغرفة. وقد انعكس ذلك سلبًا على نمو الأطفال في هذا الزمن، فأصبح الأطفال أقل تفاعلًا حتى مع أقرب الناس إليهم، مما أثّر بشكل واضح على تطورهم اللغوي والسلوكي. وتراجعت تلك اللقاءات والأحاديث الأسرية التي كانت تُبنى على حكمة الأب، وتُغلفها مشاعر الأم، وتحتضنها روح الأخوّة. أحاديث لطالما اعتدنا سماعها، وكانت تمثل الأساس المتين لكل بيت وكل عائلة. لقد أصبحت الهواتف جزءًا من الروتين اليومي أكثر من الحديث العائلي نفسه، أصبحت الهواتف اليوم عنصراً أساسي في حياة أي فردٍ فينا لا يمكنه الإستغناء عنه بل نحنُ على أستعدادٍ تام بأن نستغني عن الناس بدلاً عنها وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل:
كيف أثّرت وسائل التواصل الاجتماعي على العلاقات الأسرية؟ وهل لا تزال الأسرة تحتفظ بتماسكها في ظل تطور وظهور وسائل التواصل الاجتماعي؟
في عصرٍ أصبحت فيه التكنولوجيا جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، فرضت وسائل التواصل الاجتماعي نفسها كوسيلة رئيسية للتفاعل والتواصل مع الآخرين. ومع أنها جاءت لتُقرّب البعيد، وتُسهّل تبادل الأفكار والمشاعر، إلا أن استخدامها غير الواعي أثّر سلبًا على واحدة من أهم العلاقات الإنسانية ألا وهي: العلاقات الأسرية.
وسائل التواصل: بين الاستخدام الواعي والإفراط المَرَضي
لا يمكن إنكار الفوائد العديدة لوسائل التواصل، فهي تقرّب المسافات بين الأقارب في الدول المختلفة، وتُتيح للوالدين متابعة أنشطة أبنائهم حتى وهم في مكان عملهم، وساهمت في نقل المعرفة والعلم من وإلى كل مكان، كما توفّر محتوى تربويًا وثقافيًا مفيدًا للأسرة.
لكن في المقابل، أصبحت الهواتف الذكية تأخذ مكان الوجوه الحقيقية، وأصبحنا نُحادث من هم خلف الشاشات ونتجاهل من يشاركوننا ذات الغرفة. فالعائلة التي كانت تجتمع على مائدة الطعام للحديث والتفاعل، أصبح كل فرد فيها غارقًا في هاتفه، يتفاعل مع العالم الخارجي أكثر من تفاعله مع أقرب الناس إليه، لقد أتت الهواتف لتُسهّل علينا الحياة وتمنحنا فوائدها، لا لتسلبنا أنفسنا. لكن بالإفراط في استخدامها، أخذت منا وقتنا، وعائلاتنا، ومشاعرنا الحقيقية، ولهفة اللقاءات، وكانت سببًا في حرمان العديد من الأطفال من التعبير عن احتياجاتهم. فكم من طفلٍ أصبح سجينًا لتلك الشاشات، لا تُلفت انتباهه اللقاءات العائلية، ولا يفتح شهيته الطعام. وكم من طفلٍ غلب عليه طبع العناد والتذمر والضجر، بعد أن انشغل عمن حوله، وغاب عن التفاعل الحقيقي مع محيطه. لذلك أيها الآباء إن أعين أبنائكم لا تحتاج إلى ضوء الشاشة بقدر ما تحتاج إلى نور أعينكم، وإن قلوبهم الصغيرة لا تنبض بما يُنشر على المنصات، بل بما يسمعونه من دفء كلماتكم، وما يعيشونه من لحظات قربكم.
الآن اقطعوا عنهم بعض الوقت، وامنحوهم من وقتكم ما يكفي ليشعروا بالأمان.
اجعلوا من بيوتكم حضنًا حقيقيًا، ومن حكاياتكم جسورًا نحو الحكمة، ومن إنصاتكم غذاءً لأرواحهم.
فالكلمات التي تقال وجهًا لوجه، والضحكات المتبادلة، لا تعوّضها آلاف الرسائل ولا ملايين الإعجابات.
فلتكن التقنية وسيلة، لا بديلاً.
ولتكن قلوبنا مفتوحة قبل هواتفنا، وأرواحنا قريبة قبل شاشاتنا.
أبرز الآثار السلبية:
ضعف التواصل الأسري:
الانشغال المستمر بالهاتف يضعف الحوار بين أفراد الأسرة، ويخلق فجوة بين الآباء والأبناء.
الغيرة والمقارنات:
قد تؤدي متابعة حياة الآخرين على منصات التواصل إلى نشوء مقارنات غير واقعية بين أفراد الأسرة، خاصة بين الأزواج.
إهمال الوقت العائلي:
تحوّلت أوقات الراحة إلى لحظات صمت، حيث يُفضل البعض قضاء الوقت على التطبيقات بدلاً من التفاعل الحقيقي مع الأسرة.
نقل القيم السلبية:
يُعد هذا من أخطر الآثار الناجمة عن الاستخدام غير المنضبط لوسائل التواصل، إذ قد يتعرض الأبناء لمحتوى يتضمن قيماً دخيلة وأفكارًا لا تنسجم مع هويتنا الثقافية والمجتمعية، ما يجعلهم عرضة للتأثر بها دون إدراك أو وعي كافٍ.
اضطرابات في السلوك والمزاج:
وتتمثل أهم هذه الاضطرابات بالقلق، التوتر، ونوبات الغضب في حال عدم التفاعل مع منشوراته، أو عند مقارنته بالآخرين مما يسبب لنا بخلق شخصية غير سوية.
تأخر النطق أو ضعف الحصيلة اللغوية:
يوجد العديد من الاطفال بسب استخدامهم المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي وقلة التفاعل اللفظي والاجتماعي مع الأقران والبالغين أدى إلى عدم اكتسابهم مهارات عديده كمفردات جديدة مثلاً او مهارة حل المشكلات أو اللعب التشاركي والتواصل اللفظي السليم، كل هذا جاء لقلة تبادل الاحاديث الواقية والعيش مع الشاشات دون التعرض لأي مواقف تتطلب منه التعبير عن نفسه والتخطيط والتنفيذ.
كيف نخلق بيئة آمنة لاستعمال وسائل التواصل الاجتماعي؟
تحديد أوقات خالية من الأجهزة، مثل وقت العشاء أو الجلسات العائلية.
القدوة الحسنة من الوالدين: ابدأ دائمًا بنفسك، وكن النموذج الذي تحب أن ترى أطفالك عليه. فعندما يرى الأبناء والديهم يقدّرون الوقت العائلي، ويقلّلون من استخدام الهواتف أثناء الجلسات الأسرية، فإنهم سيتعلمون احترام هذه اللحظات وسيتبنون السلوك ذاته تلقائيًا.
نقاشات مفتوحة مع الأبناء: من المهم تخصيص وقت للحوار مع الأبناء حول ما يشاهدونه ويتابعونه على الإنترنت، ومناقشة ما يشاركونه من صور وأفكار ومقاطع. هذه النقاشات تتيح للوالدين فرصة لفهم اهتمامات أبنائهم، وتوجيههم نحو الاستخدام الآمن والواعي للتكنولوجيا، بعيدًا عن التوجيه المباشر أو فرض الرقابة الصارمة.
استخدام التكنولوجيا بطريقة هادفة: خصصوا وقتًا تشاهدون فيه معًا محتوى مفيد يناسب جميع أفراد الأسرة، ليصبح استخدام الأجهزة فرصة للتقارب والتعلم بدلًا من التشتت والانشغال فالهواتف الذكية ما هي إلا وسيلة نحنُ من نتحكم بها.
خلق بيئة أسرية غنية بالمواقف المتنوعة: احرصوا على خلق بيئة أسرية غنية بالمواقف اليومية المتنوعة التي تتيح للأطفال التفاعل والتعبير والمشاركة، مثل اللعب الجماعي، والزيارات العائلية، والمحادثات المفتوحة، لأن هذه اللحظات تساهم في تعزيز المهارات الاجتماعية وتغذية الجانب العاطفي واللغوي لدى الطفل
أعطي طفلك الانتباه والتقدير: الطفل المحروم عاطفيًا قد ينشر صورًا أو فيديوهات بكثرة ليحصل على الإعجاب والتفاعل. يصبح عدد "الإعجابات" أو "المتابعين" مقياسًا لقيمته الذاتية.
الخاتمة
وسائل التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدين، بل هي أداة تتشكل وفق يد من يحملها. فإما أن نحسن استخدامها فتصبح وسيلة تقرّب وتواصل، وتسهم في تطويرنا وتعيننا حيثما أردنا، أو نُسيء التعامل معها فتنقلب إلى عامل هدّام يقودنا إلى تفكك وتباعد الأسرة.
الحل لا يكون في الرفض أو المنع، بل في تحقيق التوازن، وتعزيز الوعي، وترسيخ المسؤولية في طريقة استخدامها، لنحصد فوائدها ونتجنب أضرارها.