اضطراب معالجة الحواس
في عالم يبدو بسيطاً لنا… هناك أطفال يرونه معقداً، صاخباً، مربكاً… لأن حواسهم لا تعمل كما اعتدنا. لا لأنهم لا يملكون حواساً، بل لأن أدمغتهم تستقبل العالم بطريقة مختلفة، فتصبح الأشياء العادية… إما أكثر من اللازم، أو أقل مما ينبغي. هذا ما يسميه المتخصصون اضطراب معالجة الحواس.
لكنه في الحقيقة… ليس اضطراباً بقدر ما هو طريقة أخرى للشعور بالحياة.
الدماغ هنا لا يجيد تصفية الرسائل القادمة من الحواس. الصوت قد يكون موجعاً، الضوء قد يكون جارحاً، اللمس مزعجاً… أو على العكس، كل شيء يبدو باهتاً، صامتاً، يحتاج إلى مضاعفة، إلى حركة، إلى قفز، إلى ضغط على الجسد كي يُشعر الطفل أنه موجود حقاً.
الحواس ليست خمساً فقط كما علمونا في المدارس. هناك حواس أخرى تحكم حياتنا دون أن نشعر بها:
الحس العميق (Proprioception): هو الإحساس العميق داخل الجسم… الإحساس بالمفاصل والعضلات والوزن. هو ما يجعلك تعرف أنك تمسك قلماً دون أن تنظر إليه، وأنك تقف مستقيماً دون أن تفكر بذلك وكأنه نظام GPS في جسمنا يحدد كل شيء بدقه لنا.
الحس الدهليزي (Vestibular): مركز التوازن داخل الأذن. هو الذي يعلمك أين الأعلى وأين الأسفل. هو الذي يمنعك من السقوط حين تركض أو تقفز أو تدور.
الحس الداخلي (Interoception): الشعور بما يجري داخل الجسد… هل أنت جائع؟ هل أنت عطشان؟ هل قلبك ينبض بسرعة لأنك متوتر؟ هل تشعر بالبرد؟ بالحزن؟ بالفرح؟ هذا الحس هو مرآتك الداخلية.
ثم تأتي الحواس التي نعرفها جميعاً: السمع، البصر، الشم، الذوق، واللمس.
حين يختل الدماغ في تنظيم هذه الحواس… يصبح الطفل محاصراً بين عالم خارجي لا يفهمه، وجسم داخلي لا يرسل له الإشارات الصحيحة. هنا ترى طفلاً لا يحتمل الملابس، يرفض أن يلمسه أحد، يهرب من الأصوات، أو على العكس… يبحث بجنون عن حركة لا تنتهي، عن ضغط، عن قفز، عن دوران.
لماذا يحدث هذا؟
العلم لا يعرف جواباً كاملاً.
ربما جينات بدأت تتصرف بطريقة مختلفة… ربما ظروف بيئية أثّرت على نمو الدماغ وهو لا يزال جنيناً… ربما الاثنين معاً.
ما نعرفه أن هذه الحالة تظهر كثيراً لدى الأطفال الذين لديهم تحديات نمائية أخرى، مثل الأطفال ذوي اضطرابات طيف التوحد أو التواصل أو النمو العصبي.
ولأن الطب لا يملك دائماً إجابة لكل شيء… لا تزال هذه الحالة خارج التصنيفات الرسمية في دليل التشخيص. لكنها ليست غائبة عن عيون أخصائي العلاج الوظيفي، الذي يراها في تفاصيل كل يوم: طفل يقفز بلا توقف… أو يرفض أن يلمسه أحد… أو يضع كل شيء في فمه بحثاً عن شعور مفقود.
التشخيص لا يحتاج بالضرورة إلى أوراق رسمية، بل إلى عين خبيرة تعرف أن هذا الطفل لا يعاني من عناد، ولا من سوء سلوك… بل من دماغ يحتاج إلى المساعدة في تنظيم فوضى الحواس.
أستخدم أدوات مثل اختبارات التكامل الحسي أو مقاييس المعالجة الحسية لنفهم أكثر:
أين الحواس المفرطة؟
وأين الحواس الخاملة؟
وما الذي يحتاجه الطفل ليجد توازنه؟
وهنا تبدأ الرحلة…
رحلة لا تحمل شعار "إصلاح الطفل"، ولا تقف عند حدود "تعديل السلوك".
رحلة نبدأها بفهم أعمق: أن الطفل ليس المشكلة… بل المشكلة في عالم لا يفهم كيف يعمل دماغه.
كما قالت د. جين أيرس يوماً: "التكامل الحسي هو التغذية العصبية التي يحتاجها الدماغ لينظم نفسه… ليشعر… ليتحرك… ليتفاعل مع العالم".
فالطفل الذي يقفز بلا توقف… لا يبحث عن إزعاج أحد، بل يبحث عن توازن داخلي مفقود.
والطفل الذي يرفض اللمس… لا يهرب من الحب، بل يهرب من فيضٍ حسيٍّ يهاجمه دون استئذان.
رحلتي كمعالج وظيفي هي أن أرى ما لا يراه الآخرون…
أن أفكك المشهد؛ ما بين سلوك ظاهري ورسائل عصبية مضطربة تبحث عن التنظيم.
أن أفهم أن القفز، والضغط، والدوران، والهرب… ليست تصرفات عشوائية، بل لغة عصبية يكتبها الدماغ حين لا يجد وسيلة أخرى للفهم أو التعبير.
لا أغيّر الطفل… بل أصنع له بيئة آمنة، حاضنة، تقدم له ما يحتاجه من غذاء حسي:
ضغط عميق حين يطلبه… حركة منظمة حين يفتقدها… أو سكون هادئ حين يرهقه الضجيج.
أقدم له أنشطة مدروسة، مصممة لتحفيز دماغه على بناء الجسور بين الحواس… حتى يصبح قادراً على ارتداء ملابسه دون ألم، والجلوس على مقعده دون قلق، والتفاعل مع أقرانه دون أن ينهكه عالم الحواس.
لأن الهدف ليس أن يصبح الطفل نسخة مما يريده المجتمع… بل أن يصبح النسخة الأكثر راحة، الأكثر توازناً، والأكثر قدرة على أن يكون… هو.