التوحد ليس نهاية الحلم… بل بداية رحلة مختلفة
حين يولد طفل يرى العالم بلغة مختلفة
حين يولد طفل يرى العالم بلغة مختلفة
يولد بعض الأطفال وهم يحملون “عدسات” مختلفة ينظرون بها إلى العالم
نحن نراهم يعيدون اللعب بنفس الطريقة عشرات المرات، أو ينسحبون من ضوضاء الحفلات، أو يرفضون أن يتلقوا نظرات تواصلية مع الأخرين. نعتقد أحيانًا أنهم يبتعدون عنا، بينما في الحقيقة هم يحاولون بكل طاقتهم أن يتعاملوا مع عالم يبدو صاخبًا، مرهقًا، وغير مفهوم
التقبل هي رحلة تبدأ من الداخل
حين تسمع الأسرة كلمة توحد لأول مرة، تهتز الأرض تحت أقدامها، تتسابق الأسئلة: هل أخطأنا في التربية؟ هل كان بيدنا أن نمنع هذا؟ هل سيعيش طفلنا حياة طبيعية؟
المشاعر متناقضة: صدمة، حزن، إنكار، وأحيانًا شعور بالذنب، التقبل لا يحدث فجأة، بل هو مسار طويل يبدأ من إدراك أن التوحد ليس خطأ أحد، بل طريقة مختلفة يعمل بها الدماغ
التشخيص رحلة بين الأمل والصدمة
لحظة التشخيص تحمل مزيجًا قاسيًا من الراحة والألم النفسي
الراحة لأن هناك أخيرًا اسمًا يفسّر ما يحدث،
الألم النفسي لأن الكلمة ثقيلة على قلب الأم والأب.
في مركزنا مرّت أسر كثيرة بلحظة كهذه، بعضهم واجهها بقوة، وبعضهم اختار الإنكار لسنوات
في إحدى المرات، جلست أمامي أم تبكي بحرقة، بينما كان الأب صامتًا يرفض الاعتراف، قال لي بعدها: ابني طبيعي… أنتم تبالغون. لم يكن رفضًا لطفله، بل رفضًا لجرح داخلي لا يعرف كيف يواجهه، ومع الوقت، ومع جلسات التوعية والتدريب، بدأ يرى ابنه من جديد… ليس كطفل مريض، بل كطفل مختلف يحتاج منه الدعم .
دور الأهل اختيار ما بين الانقسام والوحدة (رحلة التوحد قد توحّد الأسرة أو تفرّقها)
الأم غالبًا تكون أول من يلاحظ، أول من يقلق، وأول من يبحث عن حل، بعض الآباء، بدافع الخوف أو الثقافة أو الضغط الاجتماعي يرفضون الاعتراف، فيمتلئ قلب الأم أضعافًا من الحزن، لكن حين يقرر الوالدان أن يمسكا بيد بعضهما، تصبح الطريق أقل صعوبة
الأهل ليسوا مجرد داعمين، بل هم خط الدفاع الأول، أن يتعلم الأهل استراتيجيات التعامل مع السلوكيات غير المرغوبة، معرفتهم بالتحديات الحسية، ووعيهم بكيفية تعزيز الطفل، هي المفاتيح الحقيقية للنجاح مع الطفل.
الدمج هي معركة مع الحواجز
حين يدخل الطفل المدرسة أو يذهب إلى مكان عام حيث يواجه المجتمع، التحدي هنا لا يكون في قدرات الطفل فقط، بل في وعي من حوله من أشخاص.
الدمج ليس أن نضع الطفل في الصف ونتركه، بل أن نهيّئ له بيئة تستوعب اختلافه، معلمة تتفهم، أقران يتعلمون التعاطف، وأنشطة تُبنى على ما يستطيع، لا على ما ينقصه.
رأيت في مركزنا أطفالًا نجحوا في الاندماج، ليس لأن قدراتهم وحدها كانت كافية، بل لأن هناك مدرسة قررت أن تمنحهم الفرصة، وأسرة قررت أن لا تستسلم
التحديات الحسية هي فوضى لا تُرى
أصعب ما تواجهه الأسر هو ما لا يراه الناس
طفل ينهار أمام صوت مكنسة… آخر يرفض ارتداء قميص لأن ملمسه يجرحه… ثالث لا يهدأ إلا وهو يقفز بلا توقف. هذه ليست نزوات ولا دلعًا، بل ما نسميه كمختصون اضطراب المعالجة الحسية
الدماغ هنا لا يفلتر المعلومات كما نفعل نحن. الأصوات تبدو أعلى، الأضواء أقسى، اللمسات أكثر إيلامًا،الطفل ليس عنيدًا، بل محاصرًا. والحل يبدأ حين يفهم الأهل أن القفز والرفض وحتى الصراخ، ليست عشوائية، بل لغة عصبية يكتبها الدماغ بحثًا عن التوازن
كلمة أخيرة
في مركزنا مرّت مئات القصص، وكل قصة علمتني أن التوحد ليس نهاية الحلم، بل بداية رحلة مختلفة، رحلة تحتاج إلى صبر، إلى قلب يتسع، وإلى مجتمع يقرر أن يرى ما وراء الاختلاف
قد لا يتكلم الطفل في البداية، لكنه يعلّمنا لغة أعمق: لغة الصبر، الحب غير المشروط، ورؤية العالم بعيون لم تعتد على المألوف.